09/15/2025 | Press release | Distributed by Public on 09/15/2025 09:11
منذ آلاف السنين، وقبل ظهور النقود المعدنية والنقود الورقية وبطاقات الائتمان وتطبيقات الصيرفة بزمن طويل، استخدم أسلافنا صَدَفة الكاوري النقدية في شراء السلع وبيعها، وهي نوع من الأصداف البحرية. وكانت هذه الرموز المادية اللامعة هي أول ابتكار مالي عرفته البشرية. وكانت نافعة بصفة خاصة بفضل سهولة التحقق منها: فحين يعطيك شخص ما صَدَفة الكاوري، تستطيع أن تراها، وأن تلمسها، وكذلك أن تثق بأنها ذات قيمة. ولم تكن في حاجة إلى وسيط حتى تتحقق من المعاملة.
واليوم لا يزال النقد يؤدي وظيفته بالطريقة نفسها. فحين تدفع لشخص ما بالعملة الورقية تكون الصفقة قد تمت - فورا بدون تأخر. ولكن في حالة المعاملات الرقمية، فإن عمليات الدفع تبدو ظاهريا فقط أنها فورية. وفي الخلفية، تضطلع البنوك وشبكات بطاقات الائتمان بدور الوسطاء حيث تقبل المعاملة وتسويها لاحقا. وتتحمل هذه الجهات مخاطر التسوية - أي خطر تراجع أحد الأطراف عن التزامه في الاتفاق. فالوسطاء يتأكدون من أن كلا الطرفين قد التزم بتعهداته.
وإدارة مخاطر التسوية من خلال الوسطاء تستغرق وقتا. لذلك يصبح هذا الأمر مهما في الحالات التي يكون تأخر التسوية فيها مكلفا، خاصة عند تداول الأسهم أو السندات أو الأوراق المالية الأخرى في الأسواق المالية. فتقوم غرفة المقاصة بتحصيل أصول البائع وما دفعه المشتري ثم مبادلتها بعد يوم أو يومين. وفي أماكن مثل وول ستريت يمثل الوقت أموالا. وحسب تقديرات جي بي مورغان يمكن خفض تكاليف إدارة الأصول بحوالي خُمس قيمتها إذا كانت تسوية عمليات التداول وإعادة استثمار عائدات البيع فورية.
ويهدف المبتكرون الماليون إلى خفض تكاليف الوساطة من خلال نقل الطبيعة الفورية لعمليات تبادل الرموز المادية إلى العالم الرقمي. ويكمن التحدي في أنه حين لا تلتقي أطراف المعاملة وجها لوجه، فإنها لا تتمكن من رؤية الأصول التي تتداولها قبل إتمام عملية التبادل. وتقدم قابلية البرمجة حلا لذلك - شفرة مهمتها ضمان احتجاز أموال المشتري وأصول البائع ثم مبادلتها في نفس اللحظة. ويمكن إعادة استثمار الأموال المقبوضة تلقائيا مما يوفر الوقت الثمين والأموال ذات القيمة.
يُنشئ الترميز الرقمي أصولا في دفتر حسابات رقمي قابل للبرمجة، وهو نظام حفظ السجلات للمعاملات المالية التي يستطيع المشاركون في السوق أن يثقوا فيه ويتشاركوا في الاطلاع عليه. فالأصول مثل سهم أو سند ما يمكن إصدارها مباشرة في دفتر الحسابات الرقمية أو قد تكون ممثلة لأصل موجود خارج هذا الدفتر، مثل الأسهم في بورصة نيويورك للأوراق المالية. وفي هذه الحالة الأخيرة، لا يزال يتعين على الوسيط الاحتفاظ في الخلفية بالأصل المُمَثَّل.
ويمكن للترميز الرقمي أن يشجع على التنافس بين الوسطاء. وللتداول في الأسواق المالية غالبا ما تشترط النظم على المستثمرين أن يستعينوا بسماسرة الأوراق المالية. وتحويل الأصول من سمسار إلى آخر يمثل عبئا يستلزم توفير خدمات غرفة مقاصة متخصصة. أو بدلا من ذلك، يمكن للمستثمر أن يبيع جميع الأصول التي يملكها من خلال سمسار ما ثم يعيد شراءها من خلال سمسار آخر، إلا أن هذا الأمر له تكاليف تداول. غير أن الترميز الرقمي يسمح بنقل البيانات بين السماسرة بضغطة زر. وهو يجعل البحث عن السماسرة وتبديلهم سعيا وراء أفضل سعر أبسط بالنسبة للمستثمرين.
ولا يستبعد الترميز الرقمي كل جهات الوساطة ولكنه يعيد تشكيل النشاط المالي ويقلص الحاجة إلى أدوار معينة. فالمسجِلون وسطاء يديرون سجلات ملكية الأصول وينقلون المدفوعات، مثل الأرباح الموزعة أو الفائدة، من شركة ما إلى مالكي الأصول. وفي سجل الرموز الرقمية تؤدَى هذه المدفوعات إلى حاملي الرموز الرقمية مباشرة؛ مما يعني ميكنة دور المسجِلين ومن ثم فقدهم لوظائفهم.
ويعمل الترميز الرقمي على النحو الأمثل حين تتدفق الأموال والأصول بسلاسة. فإذا أنشأت الشركات المختلفة سجلات الرموز الرقمية الخاصة بها والتي لا تعمل معا، قد يتجزأ النظام المالي وينقسم إلى صوامع. ومن الممكن تصميم دفاتر الحسابات الرقمية بحيث تتصل بعضها ببعض ولكن إمكانية التشغيل البيني هذه تستلزم التخطيط والتنسيق. ولهذا السبب يريد صناع السياسات أن يتأكدوا من أن الأنظمة المُرَمَّزة رقميا ستظل مفتوحة ومتصلة ببعضها ومستقرة.
إن زيادة كفاءة الترميز الرقمي لا تخلو من المخاطر. فقيادة السيارة بسرعة أكبر يمكن أن يوفر الوقت ولكنه كذلك يجعل احتمالية وقوع الحوادث أعلى وأشد خطورة. وينطبق هذا الأمر على الأسواق المالية. فالتداول الآلي الأسرع قد أدى بالفعل إلى انهيارات مفاجئة معروفة بمسمى" الانهيارات الخاطفة"، مثل الانهيار الخاطف لبورصة وول ستريت في عام 2010 حين قُضي بسرعة على ما يُقَدَّر بتريليون دولار من قيمة الأسهم المدرجة في البورصة. ومن خلال تيسير برمجة قواعد التداول الآلي وتنفيذها على الفور، يمكن أن تكون الأسواق المُرَمَّزة رقميا أكثر خطورة وأشد تقلبا.
والأزمات المالية غالبا ما تتعاقب مثل قطع الدومينو المتداعية، حيث يؤدي حدوث انهيار ما إلى وقوع ما يليه، مثلما حدث في أزمة عام 2008-2009 عندما انهارت عمالقة البنوك العالمية بير ستيرنز وليمان براذرز وإيه آي جي في غضون ستة أشهر. وفي سجل الرموز الرقمية، يمكن كتابة سلاسل البرامج بعضها فوق بعض بحيث تعمل مثل مجموعة مبرمجة من قطع الدومينو المتداعية أثناء أزمة ما.
فالترميز الرقمي وقابلية البرمجة يجعلان صناعة المنتجات المالية المعقدة أسهل مع وجود مخاطر قد لا يفهمها واضعو النظم بصورة كاملة إلا بعد فوات الأوان. وتحقق ذلك في حالة الأصول غير القابلة للبرمجة التي تدهورت أثناء أزمة 2008-2009 وأدت إلى ما خَلُصَ إليه "تقرير التحقيق في الأزمة المالية" من أن "فقاعة تعقيد المنتجات المالية" انفجرت بالتزامن مع انفجار الفقاعة العقارية. ويذكر التقرير أن "الأوراق المالية التي لم يفهمها أحد تقريبا، والمضمونة بقروض عقارية لم يكن ليُوَقِّع عليها مقرض قبل عشرين عاما، كانت هي أولى قطع الدومينو التي انهارت في القطاع المالي". وقابلية البرمجة تزيد من تعقيد المشهد المالي المعقد بالفعل وتجعل متابعة المخاطر المحتملة أصعب على الجهات التنظيمية.
فمقدار ما يدين به المشاركون في الديون في سوق مالية ما كلٌ للآخر كان هو غالبا ما يحدد الفرق بين الموجات المالية المتتابعة وبين التسونامي. فالدين يؤدي إلى تضخيم الصدمات لأنه ينطوي على تعهد بالسداد - ولا شيء يزعزع الثقة مثل عدم الوفاء بتعهدات السداد. وبإمكان الترميز الرقمي تيسير تراكم الدين لأنه يُمَكِّن المستثمرين أو المؤسسات من استخدام الرموز الرقمية كضمانات لاقتراض أموال يستثمرونها بعد ذلك في مكان آخر. وإذا أخفق أحد الأجزاء - أي إذا فقد رمز رقمي قيمته مثلا - فبإمكانه أن يفضي إلى انطلاق الخسائر عبر النظام.
بدأت الأصول المالية في صورة سجلات ورقية ثم تطورت لتصبح دفاتر حسابات رقمية ورموزا رقمية قابلة للبرمجة. وهذا التوجه يتوسع حاليا ليشمل الأصول غير المالية مثل العقارات وحتى الضمانات الزراعية المحتملة مثل الأراضي الزراعية والماشية. غير أن الأصول المادية لا يمكن تحويلها رقميا بالكامل - فلا تزال تستلزم العناية المادية للحفاظ على قيمتها مثلما يعتني المزارع بقطيع من الماشية أو بالمرج الذي ترعى فيه. والترميز الرقمي للأصول غير المالية يُنظر إليه على النحو الأمثل على أنه هجين بين التكنولوجيا المادية والتكنولوجيا المالية.
فمن صَدَفات الكاوري في العالم القديم إلى الرموز الرقمية المستخدمة حاليا، أصبح المجتمع الإنساني يقبل وسائط مختلفة للتبادل. والابتكارات الأخيرة تمنح مكافآت واضحة من خلال زيادة سرعة المعاملات وخفض تكلفة عمليات التداول. ولكن هناك مخاطر أيضا. فالسرعة والتعقيد والديون ذات المخاطر ساهمت جميعها في الأزمات المالية السابقة - والترميز الرقمي يضيف المزيد لها كلها. وكما هو الحال بالنسبة لأي ابتكار، ينبغي التعامل مع الرموز الرقمية بحذر. مجلة "التمويل والتنمية"
يستند هذا المقال إلى مذكرة عن التكنولوجيا المالية صادرة عن صندوق النقد الدولي بعنوان "Tokenization and Financial Market Inefficiencies".
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.