09/15/2025 | Press release | Distributed by Public on 09/15/2025 09:30
يجب على السلطات أن تتصدى لتسارع وتيرة الجريمة المالية بفعل الأدوات الرقمية
أعلنت وزارة العدل في يونيو تنفيذ أكبر عملية مصادرة للعملات المشفرة في الولايات المتحدة، حيث بلغت قيمتها 225 مليون دولار، وذلك في إطار عمليات احتيال بالعملات المُشَفَّرة تُعرف بأنها احتيال باسترايجية "ذبح الخنازير"، حيث تستخدم عصابات إجرامية منظمة، غالبًا عبر الحدود، تكنولوجيا متقدمة وأساليب هندسة اجتماعية مثل مخططات الاحتيال العاطفي أو الاحتيال الاستثماري للتلاعب بالضحايا. وعادة ما يشمل ذلك استخدام حسابات مُنشأة بالذكاء الاصطناعي، والتراسُل المُشَفَّر، ومعاملات محجوبة بتقنية سلسلة الكتل (بلوك تشين) لإخفاء الأموال المسروقة ونقلها.
كان ذلك انتصار كبير. فقد تعاون عملاء فيدراليون عبر دوائر اختصاص مختلفة، واستخدموا تحليلات سلسلة الكتل وتقنيات تعلُّم الآلة لتتبع آلاف المحافظ التي استُخدمت للاحتيال على أكثر من 400 ضحية. غير أنه في الوقت نفسه كان انتصارا نادرا أكد أن السلطات كثيرا ما تضطر إلى اللحاق بالركب في عالم رقمي سريع التغيّر. ولايزال المحتالون موجودين.
فيتفوق المجرمون على أجهزة الإنفاذ بفضل قدرتهم على التكيف بوتيرة أسرع. فهم يختارون أفضل الأدوات لمخططاتهم، بدءا من غسل الأموال عبر العملات المشفرة وانتحال الشخصية بواسطة الذكاء الاصطناعي، وصولا إلى إنتاج محتوى التزييف العميق، والتطبيقات المشفرة، والبورصات اللامركزية للعملات المشفرة. والسلطات التي تواجه تهديدات مجهولة الهوية وعابرة للحدود تقيدها دوائر الاختصاص والعمليات والأنظمة القديمة.
وقد بلغ متوسط نمو الأنشطة غير المشروعة المرتبطة بالعملات المشفرة حوالي 25% سنويا في السنوات الأخيرة، وربما تجاوزت 51 مليار دولار في العام الماضي، وفقا لمنصة بيانات "Chainalysis"، وهي شركة مقرها نيويورك متخصصة في تحليل سلاسل الكتل الرقمية وتساعد المحققين الجنائيين على تتبع المعاملات.
ولا تزال جهات تهديد الأمن السيبراني تعتمد على التمويل النقدي والتقليدي، ويعتمد غسل الأموال تحديدا على البنوك، وصرافي العملات غير الرسميين، وناقلي الأموال. غير أن العمل جارٍ على تعزيز الطرق القديمة أو تسريعها بفضل التكنولوجيا المصممة لإحباط محاولات اكتشاف المعاملات وتعطيلها.
وتساعد تطبيقات التراسُل المُشَفَّر الاتحادات الاحتكارية على تنسيق المعاملات العابرة للحدود. ويمكن للعملات الرقمية المستقرة ومنصات الأصول الافتراضية التي تخضع لقدر بسيط من التنظيم أن تخفي الرشاوى والأموال المختلسة. ويستخدم المجرمون السيبرانيون هويات وبوتات ينشئها الذكاء الاصطناعي لخداع البنوك والتهرب من الضوابط القديمة. وتكاد تكون عملية تعقب عائدات الجرائم المنظمة مستحيلة بالنسبة للوكالات ذات الموارد المحدودة.
والذكاء الصناعي يخفض الحواجز أمام الشروع في هذا العمل. فالمحتالون الذين يملكون أدوات استنساخ الأصوات وتقنية إنشاء المستندات المزيفة يتجاوزون بروتوكولات التحقق من الهوية التي لا يزال يستخدمها كثير من البنوك والجهات التنظيمية. وتنمو قدرتهم على الابتكار في حين تظل أنظمة التحقق من الامتثال متأخرة عن الركب. وتدرك الحكومات هذه التهديدات، ولكن استجاباتها مشتتة ومتفاوتة، بما في ذلك تنظيم بورصة العملات المُشَفَّرة. وهناك تأخير في تنفيذ "قاعدة السفر" الصادرة عن فرقة العمل المالي (FATF) لتحسين إمكانية تحديد هوية مرسلي الأموال ومتلقيها عبر الحدود، والتي تعبرها معظم العائدات الرقمية.
وفي الوقت نفسه، تزداد التدفقات المالية الدولية تعقيدا بفعل التحويلات الفورية عبر المنصات اللامركزية وأدوات تعزيز إخفاء الهوية. ولا تزال معظم المدفوعات تمر عبر جهات وساطة متعددة، وغالبا ما تتداخل المعاملات العابرة للحدود من خلال بنوك مراسلة قديمة تحجب المعاملات وتؤخرها بينما تزيد التكاليف. ويساعد ذلك المجرمين على استغلال الثغرات في الرقابة، والتنسيق بين دوائر الاختصاص، والقدرة التكنولوجية على العمل عبر الحدود، وغالبًا دون اكتشافهم.
هناك سردية موازية. فالمجرمون يستغلون الابتكار لتحقيق السرية والسرعة في حين تختبر الشركات والحكومات سُبل التنسيق للحد من تعرضها للمخاطر وتحديث البنية التحتية عبر الحدود. وفي الوقت نفسه، لم تُستكشف بعد الانعكاسات التكنولوجية على مكافحة غسل الأموال تمويل الإرهاب بالقدر الكافي.
فعلى سبيل المثال، أنظمة المدفوعات السريعة في سنغافورة وتايلند تُمَكِّن من إجراء تحويلات لحظية للأفراد باستخدام أرقام هواتفهم المحمولة؛ وقامت إندونيسيا وماليزيا بربط رموز الاستجابة السريعة (QR Codes) للمدفوعات العابرة للحدود. وتوفر هذه الابتكارات الكفاءة والشمول ولكنها تثير قضايا جديدة تتعلق بالتحقق من الهوية، ومراقبة المعاملات، والتنسيق التنظيمي (راجع المقال بعنوان "الدفع قُدُما بمدفوعات جنوب شرق آسيا العابرة للحدود" في هذا العدد من مجلة التمويل والتنمية).
وفي الهند، تتيح واجهة المدفوعات الموحدة إجراء تحويلات سلسة عبر التطبيقات والمنصات، مما يسلط الضوء على قوة التصميم الذي يتيح إمكانية التشغيل البيني. ويتضح من خلال إجراء أكثر من 18 مليار معاملة شهرية، كثير منها بين منصات متنافسة، كيف يقود الانفتاح وتوحيد المعايير إلى التوسع والشمول. وتبين أبحاث صندوق النقد الدوليأن المدفوعات الرقمية في الهند نمت بوتيرة أسرع عندما تحسنت قابلية التشغيل البيني، خاصة في الأسواق المتشرذمة حيث كان تبديل المنصة مكلفًا (راجع المقال بعنوان "الهند وسلاسة أداء المدفوعات" في هذا العدد من مجلة التمويل والتنمية).
وتعكس هذه الابتكارات الإقليمية والمبادرات العالمية فهما متزايدا بأن مكافحة الجريمة وتعزيز الشمول هما أولوياتان مترابطتان، لا سيما مع تسارع حركة المجرمين إلى أقصى حد. وقد أكدت فرقة العمل المالي ذلك، وحثت البلدان على تصميم ضوابط لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب تدعم الشمول والابتكار. وإضافة إلى ذلك، فإن توصيةفرقة العمل المالي التي صدرت في شهر يونيو تمثل تقدما كبيرا، حيث إن اشتراط ذكر معلومات عن مُنشئ المعاملة والمستفيد منها في التحويلات البرقية العابرة للحدود -بما في ذلك المعلومات التي تشمل الأصول الافتراضية- سيعزز إمكانية التتبع عبر المنظومة البيئية المالية الرقمية سريعة التطور.
وتشكل هذه الجهود أمثلة مهمة على كيفية تمكين التكنولوجيا للمجرمين من التفوق، ولكن التكنولوجيا يجب أن تكون كذلك جزءا من الاستجابة التنظيمية.
إن تحديث نظم الدفع العابرة للحدود والحد من الحواجز غير المقصودة أمام مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل متزايد يعني التركيز على الشفافية وقابلية التشغيل البيني والتنظيم القائم على المخاطر. ويسهم عمل صندوق النقد الدولي بشأن "ممرات الدفع الآمنة" في دعم ذلك من خلال مساعدة البلدان على بناء قنوات موثوقة وآمنة للتدفقات المالية المشروعة دون التأثير سلبا التكنولوجيا الجديدة. واتضح من خلال مشروع تجريبي مع ساموا -أدى تخفيف المخاطر من خلاله إلى تعطيل تحويلات العاملين في الخارج- كيف يمكن للضمانات الوقائية الموجهة والتعاون مع مقدمي الخدمات الخاضعين لتنظيم أن يحافظا على إمكانية الوصول مع الحفاظ على النزاهة المالية دون تعطيل استخدام منصات الدفع الإلكتروني الجديدة.
هناك العديد من البلدان التي تستثمر في تَعَلُّم الآلة، بتوجيه من صندوق النقد الدولي، لاكتشاف حالات الخلل في التدفقات المالية العابرة للحدود، في حين تُشدد بلدان أخرى عملية تنظيم مقدمي خدمات الأصول الافتراضية. وتستثمر الحكومات في قدراتها على تتبع تحويلات العملات المشفرة، وغالبا ما تستعين بشركات تحليل سلاسل الكتل الرقمية لهذا الهدف.
إن تحليل صندوق النقد الدولي للتدفقات العابرة للحدود والقواعد المُحَدَّثة لفرقة العمل المالي يعززان بعضهما. وإذا نُفِّذا بشكل متكامل، يمكن أن يساعدا على تحقيق الكفاءة الرقمية والنزاهة المالية معا. ولتحقيق ذلك، يجب مواءمة الأطر القانونية لتمكين الوصول إلى الأدلة الرقمية في الوقت المناسب مع الحفاظ على الإجراءات القانونية الواجبة. ويجب كذلك تطوير نماذج الرقابة على البنوك والمؤسسات المالية غير المصرفية التي تقدم خدمات عابرة للحدود. وينبغي بناء علاقة شراكة بين الأجهزة التنظيمية وشركات التكنولوجيا المالية، كما ينبغي للانخراط في العمل المستدام متعدد الأطراف أن يعزز المدفوعات العابرة للحدود بحيث تتسم بالسرعة وانخفاض التكلفة والشفافية مع إتاحة إمكانية تتبعها، وأن ترتكز على معايير قابلية التشغيل البيني فضلا على احترام الخصوصية.
على الحكومات أن تمضي قُدُما. وهذا يعني الاستثمار في التكنولوجيا التنظيمية، مثل أنظمة مراقبة المعاملات المدعومة بالذكاء الاصطناعي وتحليل سلاسل الكتل الرقمية، ومنح الوكالات الأدوات والخبرات اللازمة لاكتشاف مخططات العملات المشفرة المعقدة والاحتيال بالهويات الاصطناعية. ويتعين على المؤسسات مواكبة تقدم المجرمين من خلال تعيين علماء بيانات وخبراء متخصصين في الجرائم المالية والاحتفاظ بهم. ويجب إخضاع الأصول الافتراضية للتنظيم في إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وينبغي لعلاقات الشراكة بين القطاعين العام والخاص أن تسهم في تطوير أدوات لاكتشاف المخاطر الناشئة، ويجب دعم المعايير العالمية التي تضعها فرقة العمل المالي ومجلس الاستقرار المالي باستثمارات قومية في أطر فعالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ولا بد من مراعاة الاتساق والتنسيق في التنفيذ. فالجهود المشتتة تترك ثغرات يستغلها المجرمون. إن تفوقهم التكنولوجي المتنامي على الحكومات يهدد بالتأثير سلبا على النزاهة المالية، وزعزعة استقرار الاقتصادات، وإضعاف المؤسسات الهشة أصلا، وتراجع ثقة الجمهور في الأنظمة التي تهدف إلى ضمان السلامة والإنصاف. ومع تبني العصابات الإجرامية للتكنولوجيات الناشئة وتطويعها للتفوق على جهات إنفاذ القانون، فالتكلفة ليست مالية وحسب، بل هي هيكلية ونظامية. فالحكومات لا يسعها الانتظار. والمجرمون لن ينتظروا.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.